أفأمنوا مكر الله؟
الحمد لله المتفضل على خلقه بالرحمة والإحسان الناظر إليهم بغير إهمال، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى المختار، وبعد
فإن القرآن كلام الله حقيقة بحرف وصوت من غير تشبيه ولا تعطيل حثنا وأرشدنا ربنا جل وعلا فيه فقال {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، ذلك لأن الله القدير يورث علماً وفهماً، والعلم والفهم يورثان عملاً قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2، 3]، وقد أقام رب العالمين حجته على خلقه مخوفاً ومحذراً من مخالفة أوامره والتجرؤ على زواجره فقال تعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 96 - 99].
أخبرنا ربنا جل وعلا قبل هذه الآيات عن قلة إيمان أهل القرى الذين أُرسل إليهم الرسل، وأن المكذبين للرسل المتمردين على قبول رسالاتهم يُبتلون بالضراء موعظة وإنذاراً، ويُبتلون بالسراء استدراجاً ومكراً فلما ذكر سبحانه وتعالى ذلك، قال { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا }.
والقرية: اسم للتجمع العمراني من قريْتُ الماء إذا جمعته، وأهل القرى هم الذين أُرسلت فيهم الرسل، وبلغتهم رسالة ربهم، فلو أنهم آمنوا وصدقوا واستيقنت قلوبهم بذلك لكان ذلك خيراً لهم فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ: "اعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ".
وفي حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وهو حديث طويل قَالَ: كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،. . . . . . . فَقَالَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ" وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ، قَالَ: "اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ".
وبرهان هذا التصديق وثمرته قوله "واتقوا " أي بفعل الطاعات وترك المحرمات، وفي ذلك إثبات لقاعدة رئيسة في عقيدة المسلم وهي " الإيمان ما وقر في القلب وصدقه القول والعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فلا إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان هما متلازمان سيان لا ينفكان " فهذا هو الشرط يقابله المشروط في قوله تعالى " لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ".
وفي هذا تقرير لقاعدة " الشرط مقابل المشروط وجوداً وعدماً نفياً وإثباتاً"، وبركات رب العالمين من السماء والأرض، بأن يرسل عليهم السماء مدراراً، وينبت لهم من الأرض ما به يعيشون، وما يعلم جنود ربك إلا هو، والله على كل شيء قدير، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فلما كذب أهل القرى، وأعرضوا، ولما فسدوا وتمردوا أخذهم الله بما كانوا يكسبون، أخذهم بالعقوبات والبلايا وكثرة الآفات والعِلاَّت ونزع البركات، وذلك بما كانوا يكسبون من المعاصي والآثام والإعراض والتمرد على أوامر رب العباد، قال تعالى {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } [الزمر: 51]، وهذا الأخذ هو بعض جزاء أعمالهم، قال تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وقال تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، وهذا من كمال رحمته سبحانه وتعالى لعلهم يرجعون لأنه لو آخذهم بجميع ما كسبوا لعجل لهم العذاب، قال تعالى {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا } [الكهف: 58]، ولمَا ترك على ظهرها من دابة قال تعالى {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45]، وقال تعالى {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، فقوله " بما كسبوا " يوضح قوله " بظلمهم"، وقوله " يؤخرهم إلى أجل مسمى" فيها أنه يمهل ولا يهمل جل في علاه، وبرهان ذلك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ".
ثم قال الملك الجبار، مخوفاً ومحذراً من مخالفة أوامره، والتجرؤ على زواجره " أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ"، الاستفهام للإنكار، أفأمن أهل القرى الكافرة المكذبة أو العاصية الفاسقة المتمردة، أن يأتيهم عذابنا وعقابنا ونكالنا الشديد ليلاً وهم نائمون مطمئنون، ثم قال " أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ" أي: لاهون منشغلون غافلون هكذا على غرة وغفلة وهذا أشد أنواع العذاب، ويحذركم الله نفسه، الذي بيده مقاليد الأمور، وأمره في كن فيكون قال تعالى " أفأمنوا مكر الله " حين يستدرجهم من حيث لا يعلمون قال تعالى {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44، 45]، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ " ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
"فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون" وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، ‘: الْمُؤْمِنُ يَعْمَلُ بِالطَّاعَاتِ وَهُوَ مُشْفِق وَجِل خَائِفٌ، وَالْفَاجِرُ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ آمِنٌ.
وعَنِ الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قال حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: "إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ" فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ. .. . ". ، وعند أحمد في مسنده فَقَالَ لَهُ: هَكَذَا فَطَارَ ".
فالأول مستعظم لذنبه والآخر مستخف به، وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: "إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ المُوبِقَاتِ" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ البخاري: "يَعْنِي بِذَلِكَ المُهْلِكَاتِ".
والمقصود أن المؤمن لا يزال خائفاً وجلاً من الملك الجبار الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، أن يبتليه ببلية تسلب ما معه الإيمان، فيختم له بخاتمة السوء فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا".
ولذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ".
فالعبد مهما عمل وقدم فليس على يقين من السلامة " فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ"، وقال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57]، وقال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } [السجدة: 22].
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحمنا برحمته وأن يغفر لنا الزلات، وأن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير وهو نعم المولى ونعم النصير.
كتبه
صبري محمد عبد المجيد.
([1]) صحيح. أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 10) رقم 3228.
([2]) صحيح مسلم (1/ 59) رقم 52(31).
([3]) صحيح مسلم (4/ 2098) رقم 99 (2742).
([4]) حسن أخرجه أحمد في مسنده (28/ 547) رقم 17311، وغيره وانظر الصحيحة (1/ 773) 413.
([5]) تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 451).
([6]) صحيح البخاري (8/ 67) رقم 6308.
([7]) مسند أحمد (6/ 131) رقم 3627.
([8]) صحيح البخاري (8/ 103) رقم 6492.
([9]) صحيح مسلم (1/ 110) رقم 186 (118).
([10]) صحيح وانظر السلسلة الصحيحة (5/ 126) رقم 2091.
|